أ. د. محمود مصري
خصائص الرؤية ومكانة الإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
سوف ننطلق في هذه الورقة من إطار الرؤية المنفتحة التي صاغها الإسلام للعلم فأبرز من خلال تلك الصياغة مكانة الإنسان.
وبذلك نكون قد جمعنا العنوان العام للندوة: تراثنا الإسلامي: رؤية منفتحة وعلم عالمي، والعنوان الخاص للورقة: خصائص الرؤية ومكانة الإنسان.
وقد رأيت أن نقف في هذه الورقة على محطات:
المحطة الأولى: العلم هو منطلق الرؤية
ما من شكٍّ أن مِداد فصول حضارتنا وتراثنا هو دعوة الإسلام إلى العلم التي ابتدأت منذ نزول أوّل آيةٍ على قلب رسول الله ﷺ، وهي قوله تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق [العلق: 1]. فقد أُمر الإنسان بالقراءة (اقرأ)، ولكن ليست القراءة التي تكون على أيّ وجهٍ، وكيف ما اتفق، سواء أكانت قراءةً مبصِّرة بحقيقة الإنسان أم مجهِّلة تودي به إلى الضياع، سواء أكانت قراءةً تقود البشريّة إلى السعادة أم إلى الشقاء، بل هي قراءةٌ تقود الإنسان إلى نضجه المعرفي، كما تقود البشريّة إلى سعادتها وكمالها، ليس غير.
وهذا لا يتحقّق -من خلال رؤية الإسلام- إلّا بتحقق شرطَي القراءة
إنّ تحقُّقَ الشرطين السابقين في تلك القراءة يقود إلى الالتزام بأصولها التي نجملها بما يأتي:
المحطة الثانية: العقل وثمرات العلم
إن التمسّك بالأصول في القراءة الرشيدة المتقدمة هو الذي يبلّغ القارئ ثمرات العلم المكتسب من القراءة. وهي:
وقد كان لموقف الإسلام من العلم الأثر الكبير في تفتيح العقول وتنويرها وتحريرها مما عشعش فيها من الجهل والأوهام وخرافات الجاهلية. وبفضل ذلك سرعان ما أخذ علماء المسلمين بناصية العلوم الكونيّة، وأصبحوا أساتذة العالم.
إن هذه الصلة بين الإسلام والعلم تشهد بها فواتح الكتب العلمية التي وُضعت في قرون ازدهار الحضارة الإسلامية، فما مِن مصنِّفٍ إلا أوضح في مقدمة كتابه النسبةَ بين العلم الذي هو موضوع الكتاب وبين علوم الوحي من الكتاب والسنة، سواءٌ أكان ذلك من جهة المادة العلمية أم من جهة الهدف من تصنيف الكتاب.
وامتدّ انعكاس هذا الأثر للإسلام في نمو العقل المسلم ونضجه -إبّان النهضة العلمية الشاملة في عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية- إلى العقل الإنساني فيما بعد، ليس على مستوى انتقال العلوم الإسلامية التي تمثّلها الغرب أثناء نهضته فحسب، وإنما على مستوى انتقال المنهج العلمي في الوصول إلى الحقائق الكونيّة.
ويمكن أن نتلمّس جوانب تأثير الإسلام في تنوير العقل المسلم بالنقاط الآتية:
المحطة الثالثة: الكرامة ومكانة الإنسان
جاءت المنهجية السويّة في التعامل مع الحسِّ والمعنى في الحضارة الإسلامية نتيجةً عفويّةً للعقلية المتفتِّحة وخُلُق الإنصاف عند علمائنا، فأعطوا كلَّ ذي حقّ حقَّه، وتولّدت عندهم ثمرات السموّ الفكري، والموضوعية العلمية، وتفجّرت لديهم ينابيع الحكمة، وتأسست فيهم أصول المعرفـة، فأنشؤوا حضارة اتَّسمت بالإنسانية والتكامل، وظهرت آثار ذلك في مختلف العلوم الشرعيّة والإنسانيّة والكونيّة، وفي الآداب والفنون.
والعلم أساس تقوم عليه الرؤى وتزدهر في أحضانه التجربة، وتتشابك فيه خيوط المعرفة المنبثقة عنهما لتنسج رداء يزدهي بالجمال ويفيض بالمحبة، ليكسو العالم بأجمعه، يجمع لك نبض الإنسان على صفحات الزمان، في مغاني المكان، تارةً يرتقي بك في درجات المعرفة، وتارةً ينبئك عن مراقي التجربة، وعلى الدوام يتجلَّى التراث، وعلى خلفيته تتشابك علاقات قيميَّة، علاقة الإنسان بالإنسان الموافق والآخر ليجد قوانين العيش المشترك، وعلاقة المجتمع بالحقوق ليجد العدل، وعلاقة المدنية بالسياسة لتجد حسن التدبير، وعلاقة العلم بالتاريخ ليجد نفسه، فالإنسان مرآة الإنسان، والمجتمع يقوم بالعدل ويقوَّم به، والمدنية لا قيمة حضارية لها إذا هي لم تتَّسم بالإنسانية، وما العلم إلا تاريخ العلم، والعقل والتعقُّل يصون ذلك كلَّه ويحفظه.
إن الرؤية المنفتحة التي صاغها الإسلام للعلم أبرزت مكانة الإنسان، وجعلته مكرَّما. وهذه (الكرامة الإنسانية) مُنحت للإنسان على أنه إنسان، بغضِّ النظر عن تصنيفه، لأن الأصل فيها أن مانحها جعله مؤهَّلًا للمعرفة (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، أي ليعرفون فيعبدون، على تأويل ابن عبَّاس، وجعله مستعدًّا للخلافة (إني جاعل في الأرض خليفة)، وهذا هو سرُّ الكرامة.
المحطة الرابعة: رؤى النوازع والقيم
هذا العنوان اقتبسته من الكتاب العظيم للدكتور فيصل الحفيان (روح التراث) الذي هو تحت الطبع في الدار، والذي أعده كتاب السنة للدار. ففيه نقف مع المؤلف أمام ثلاثية (العقل والعدل والأخلاق) في محطات، نتنقل فيها بين المرايا اللغوية، والدلالات الاصطلاحية، والعلاقات البينية، وأقول أنه يبرز هنا في تراثنا العظيم كتابا المحاسبي: العقل، وفهم القرآن. والعقل عند المحاسبي رجل (التصوف العقلي) غريزة منحها الله للإنسان ليسترشد بالدين، سابحًا في فضاء النقل مستهديًا بهديه، دون أن يستقلَّ بالتفرقة بين الخير والشر، كما هو الحال عند المعتزلة. ومن هنا جاءت محاربة المحاسبي -بالسلاح العقلاني- للانحرافات العقلية لدى هؤلاء، تلك الانحرافات التي أفضت إلى ضلالات أفرزت الاستهتار بالقيم، وأثَّرت في ظهور انحرافات من نوع آخر على مستوى النظرة إلى (العدل) و (الأخلاق). وممَّن أشار إلى هذه الفلسفة عند الزهاد العقلانيين عصريُّ المحاسبي ابنُ مسروق، حيث قال: “من لم يحترز بعقله مِن عقله لعقله هلك بعقله”، فهؤلاء الزهاد العقلانيون أدركوا الوجهين الكلاميِّ والذوقيِّ للتوحيد معًا، وهو ما نريد الوصول إليه عبر الرؤية المنفتحة، ومن هنا نفهم تصوُّر الحفيان لهذه الثلاثية على شكل هرم مقلوب رأسه العقل وقاعدته العدل والأخلاق.
المحطة الخامسة: التراث مصدر القوة ومنطلق التجديد
في زمن يهرول فيه العالَم نحو المستقبل… في زمن أسموه زمنَ ثقافة العولمة وزمنَ العبور إلى ثورة النانوتكنولوجي، لا تزال ترى ثلة من الباحثين تنبش آثار الماضي وتستخرج منها ما تزعُم أنه درر الزمن الغابر، وتستلهم من أغوار التراث مادة تقرأ في مرآتها الحاضر وتنظر من خلالها إلى المستقبل. فهل نحن بحاجة فعلا إلى التواصل مع الماضي؟
إن الشجرة التي لا جذور لها لا يُنتظر ثمرها، ولعل وجودنا اليوم يأخذ قيمته من كونه استمرارًا لماضٍ أسَّس فيه من سبقنا لنظرة شاملةٍ مستوعبةٍ إلى الإنسان والكون والحياة، يمكن من خلال حقائقها أن نمتلك زمام الحضارة في أي زمان ومكان، ما دام هذا التراث يعيش في داخلنا، ولا نعيش نحن في داخله.
إن التراث لا يمكن أن يكون ماض مطلقا، لأنه يتجسد ويتشخص في كثير من جوانب تفكيرنا وسلوكنا، غير أنه يتجدد فينا بتجدد الحياة، وهذا ينطبق أيضا على التراث العلمي، لذلك قال غوته: “إن العلم هو تاريخ العلم”، وقال نيوتن: “إن كنتُ قد رأيت البعيد، فلأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة”. وهذا قول صدق، فما من شيء نحن عليه الآن من نتاج الفكر والمادة إلا هو تراكم معرفي تجلت فيه حركة الإنسان الحضارية عبر تاريخ طويل، وهذا التاريخ الطويل ما نحن فيه إلا حلقة من سلسلة طويلة، ولكن هل لهذه الحلقة ما يميزها من غيرها؟
إن بروز الجوانب الإنسانية المتميز في حضارتنا الإسلامية، وقيادة هذه الجوانب للجوانب المادية من الحضارة، وتوجيهَ دفتها لما هو نافع للبشرية هو الذي أكسبها النضارة عبر الزمن، وهو الذي يجعل من الإمكانات الكامنة في الأمة قوة قابلة للانبعاث والتجدد في أي وقت لاحق، وهذا بخلاف حضارات كثيرة ظهرت ثم بادت، وحلت محلها حضارات أخرى.
ولعل من الحكمة اليوم في تعاملنا مع التراث أن نخرجه من حيز الدراسات الأكاديمية المتخصصة إلى فضاء التثقيف العام، الذي ينتفع منه الجمهور، إن حاجتنا اليوم كبيرة إلى إعادة النظر في التعامل مع المنجز التراثيِّ العلمي الذي وصل إلينا من ثمار عقول علمائنا الأقدمين، هذا التراث العظيم نحن بحاجة إلى برامج تضمن استمراريته في الأجيال القادمة، مهذبا ومجددا على الدوام، نحن بحاجة إلى تعاملٍ مع التراث يحفز الوعي نحو الانتماء لسلسة العلماء العاملين في الأمة والسير على منهجهم العلمي لفهم وحي الكتاب والسنة، والأخذ منه في ظلِّ الصلة مع التراث العلمي، لا القطيعة معه، التي يتكلفها البعض ويصطنعها بذريعة التجديد. نعم التجديد مطلوب، لكن معنى التجديد نفهمه كما عرفه فحول العلماء، فهو العودة إلى الأصل بعد أن أصاب البناء شيء من الفساد. فحاجتنا كبيرة اليوم -وقد أصاب البناء فساد كبير- إلى صياغة برامج تجمع بين تقاليد العلم والتعليم التراثي من جهة والأفكار والرؤى العصرية من جهة أخرى بتناغم وانسجام، لا بطغيان ومصادرة.
خاتمة: نحن اليوم بأمس الحاجة إلى وراثة هذا العلم التراثي بمضامينه الإنسانية ومناهجه وأخلاقياته، هذا العلم العالمي الذي يكسبنا خصائص الرؤية المتميزة ونبني عليه مكانة الإنسان في موقع الكرامة. وإن وراثة هذا العلم هي التي تؤدي إلى وراثة الدنيا بسر قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّٰلِحُونَووراثة الآخرة بسر قوله تعالى وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ