لكن َّ الذي لاشك فيه هو أن (المخطوطات) لو كانت مملكة، لكانت (إستانبول) – بالتأكيد- هي العاصمة. على أن (إستانبول) ليست عاصمة تاريخيَّة فحسب؛ بل هي عاصمة حاضرة أيضا، ذلك أنها ليست مستودعاً ضخما للمخطوطات، إنما هي -إلى ذلك بيئة لحراك هذه المخطوطات وإطلاق طاقاتها الحضارية. لإستانبول (روح) عبقريِّ متفرِّد بين الأمكنة، وللمخطوطات العربية، التي هي التجلي الأهم للحضارة الإسلامية (روح) عبقريِّ متفرد بين الحضارات. والأرواح جنود، إذا ما التقت كان الائتلاف الذي يعتصر الجغرافيا والتاريخ، ويبني رؤية جديدة تصنع حضارة جديدة. لهذا كانت (دار المخطوطات) في إستانبول، برعاية مباركة من وقف السلطان أحمد.
هذه المفردة الأخيرة تتأسَّس على الأولى، وبهما معا يمكن استعادة حضور (المخطوط) في الثقافة العربية والإسلامية، وإخراجه من الأزمة التي تضرب جذورها في تربة (أو لا تربة) غياب الرؤية الثقافية والإستراتيجية الشاملة.
وانطلاقا من هذه الرؤية أخذت الدار على عاتقها رسالة إحياء ثقافة المخطوط وتطويرها، وإظهارها في عالم التواصل الحضاري من خلال أربعة أبعاد: المعلومة، والتوثيق، والبحث، والنشاط العلمي.
في ضوء هذه الرؤية يتحتَّم العمل لتجاوز أزمة المشروع التراثي، وإن تخفى وراء مظاهر (الحيوية) المتمثِّلة في حراك يغرق في الإجراءات، لكنَّه لا يصل إلى الغايات
إن مفارقة الإجراءات والغايات تعبِّر عن أزمة مركَّبة: أزمة وظيفة، وأزمة هوية، والتركيز على التغلُّب عليها؛ ما استخفى منها، وما استعلن، يكون بالتأسيس للنظر الكلِّي وإزاحة الرؤية الاختزالية، والتعامل مع النصوص على أنها متواصلة ومتكاملة، لا على أنها جزر منعزلة، وبذل غاية الجهد في رسم المعايير سواء على مستوى التفكير أو العمل، وعدم الاقتصار في التعامل مع المخطوط على الإجرائية والمقاربات التقنيَّة، والتغلُّب على ضعف التكوين العلمي للعاملين في الحقول المعرفيَّة والمنهجيَّة المختلفة للمخطوط. من أجل الارتقاء بالعمل التراثي فكرًا وعملًا، ليس أمامنا إلا إرساء ثقافة العمل المشترك خاصة علىَّ مستوى المؤسَّسات، والإفادة من الرصيد التراثيِّ التاريخيِّ والتراكم النظري والعملي في القرن الماضي، وفي الوقت نفسه تنمية ملكة النقد الموضوعي، واعتماد مبدأ تجديد النظر لأغراض الاستكمال والنقد وفقه الواقع ونوازله.
تطمح (الدار) إلى أن تكتسب في المستقبل القريب صفة المرجعيَّة في كل ما يتَّصل بالمخطوط العربي وذلك باختراع مشروعات مبتكرة، وبالالتزام بأعلى المعايير والضوابط العلميَّة والمنهجية، وبالتفاعل مع المؤسَّسات التراثية وعقد الشراكات معها، وتوظيف منجزات العصر وتقنياته إلى أبعد مدى، هذا بالإضافة إلى اجتذاب أهل الاختصاص، وإخضاع المشروعات التي تتبناها أو تقدِّم إليها لاختبار الجدارة العلمية وارتباطها برؤية حضارية تتَّفق والثوابت: ثوابت الدين والتاريخ والقيم الإنسانية.
تقوم المشروعات (في الدار) على رؤية ثقافيَّة وعلمية صادرة عن نقاش مستفيض بين أهل الاختصاص، وكانت الرؤية هي أساس إجازتها، إضافة إلى قيمتها في ذاتها، واستيفائها شروط الجدارة العلمية، في آن معاً وكان التفكير فيها على مستويين: مستوى الابتكار بمعناه المباشر، ويتمثَّل في استحداث مشروعات جديدة في أفكارها الأساسية، ومستوى الابتكار بمعنى اعتماد طرائق جديدة في المقاربات المنهجيةُ والعملية، من دون أن يعني ذلك عدم الإفادة من الجهود التي بُذلت، والبناء عليها.
إنها تعتمد على التأليف أو الجمع بين الاستناد بصورة أساسية على المنجز التراثي الذي وصل إلينا من ثمار عقول علمائنا الأقدمين، وعلى ما انتهت إليه الجماعة التراثية العربية من أهل العلم في القرن الماضي، وبالطبع توظيف المنجز التكنولوجي والتقني الحديث بمختلف أشكاله، وتستوعب العمل في (المخطوط العربي) من جميع جوانبه: أثريَّته وصيانته والتعريف به ونصيَّته وثقافته والمثاقفة به؛ أثريته من بابة علم المخطوط، وعلم المخطوط الجمالي، وصيانته من بابة حفظه وترميمه، والتعريف به من بابة فهرسته وتصنيفه، ونصيته من بابة التحقيق والدرس، وثقافته من بابة التكوين المعرفي الذي يقوم على أساس أن المكتبة التراثية كتاب واحد، والمثاقفة به من بابة حسن عرض خطابه المعرفي والحضاري.
ترتبط جميع المشروعات بالزمن، فلكل مشروع خطة عمل ومراحل محكومة بآجال قصيرة وبعيدة، وتخضع جميع المراحل للحوكمة والتقويم المستمر لمعالجة المشكلات أوَّلاً بأول، وإصلاح الأخطاء، وتدارك التقصير وتعديل المسارات، إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك.
كما يعتمد تنفيذ المشروعات على الشراكات؛ لأن التعاون هو أساس الإنجاز والنجاح؛ والتعاون المقصود هو بمفهومه العام ، الذي يشمل الانفتاح على المؤسسات العاملة في حقل المخطوط العربي، سواء على مستوى تلاقح الأفكار وتعدد الرؤى بما يمنح المشروع الخصوبة، أو على مستوى الشراكة المالية بما يضغط الزمن المرسوم للإنجاز،أو يحقق إنجاز أكبر في زمن أقصر، أو على مستوى الأمرين معا، بما يحيل على قيمنا العليا من التعاون والانتماء والهم المشترك والأهداف الواحدة والوعي بالمسؤوليات الحضارية الجامعة.
الخيط الناظم للعمل كله هو الوعي العميق بخطر هذا الكائن التاريخي -بما يحمله من معرفة وقيم- على الشهود الحضاري اليوم للأمة العربية والإسلامية.
في قلب الاهتمام الأجيال العربية والإسلامية الجديدة، فهي الهدف، والمفارقة أنها هي –كذلك– الأداة، فالعمل يتغيَّاها، وفي الآونة نفسها يستخدمهما، من دون أن يعني ذلك –بداهة– الاستغناء عن الأساتذة المتخصصين وأهل الفكر والخبرة والتجربة، الذين يمثلون الهداة والموجهين للحراك مذ يكون فكرة، حتى يغدو أثراً معاينا
ومن هذا الفهم للإطار العام للدار تتوضح مرتكزاتها الأساسية من جهة كونها برنامجاَ علمياَ ثقافياً بحثياً، يسعى لخدمة العمل الأكاديمي المتخصص في علوم المخطوط، ونشر ثقافة المخطوط بألوانها التراثية والمعاصرة، والارتقاء إلى رفد البيئة الأكاديمية بالخبرات العلمية العالية والمهارات التطبيقية المتميزة.
هو عمل مرسوم بدقة علمية ومنهجية، وذو مقاصد عليا حضارية، يفيد من أعمال المؤسسات والمراكز والدور الأخرى، لكنه لا يستنسخها، ولايكررها.